طبإن التفاعل بين الإيمان والعلم في ضمير المسلم جعل منه شخصية فذَّة هيَّأته لاستيعاب كل ما يتعلق بمتطلبات الحياة؛ لذلك نرى المسلمين أينما رحلوا وحلّوا كان لهم تأثير على الشعوب.
حيث نقلوا إليهم إيمانهم بعقيدتهم واستوعبوا منهم علومهم؛ نظرًا لما كانوا عليه من استعداد لاستيعاب كل ما هو جديد ومفيد.
ولو لم يكن لديهم هذا الاستعداد الذي أحدثه الإسلام لما حدث هذا التطور العلمي الضخم الذي أرسى قواعد الحضارة الإسلامية الشامخة التي بهرت الأصدقاء.
واعترف بها الأعداء؛ لأنه من المستحيل أن ينقل علم من أمة إلى أخرى إلا أن تكون هذه الأخيرة في مستوى من التقدم الفكري يؤهِّلها لاستيعاب العلم المنقول إليها، وهضمه، والاستفادة منه باستحداث علوم جديدة وأصيلة في مختلف أبواب المعرفة.
إن جميع النظريات والحقائق العلمية التي ترجمت، والتي استحدثت في بغداد ودمشق والأندلس كانت العلوم التي تدرس في الجامعات الأوربية لعدة قرون.
واستمرت حتى القرن السابع عشر الميلادي بعد ترجمتها إلى اللغات الأوربية.
ومن ثَمَّ أصبحت الدعامة الرئيسية لنهضة أوربا الحديثة.
ويمكن أن نتصور مدى تأثير العلوم الإسلامية على النهضة الأوربية إذا ما علمنا أن كتاب القانون لابن سينا طُبع خمس عشرة مرة في أوربا؛ ولذلك ترى أن بعض الغربيين المنصفين يعترفون بأن العرب كانوا أساتذة أوربا لمدة لا تقل عن ستمائة سنة، كما يذكر العلامة جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب).
واعترافًا بفضلهم فإن جامعة باريس تحتفظ في كلية الطب بصورتين كبيرتين ملونتين، إحداهما للرازي والأخرى لابن سينا.
وإن جامعة برنستن الأمريكية وضعت اسم الرازي على أضخم أجنحتها؛ تقديرًا لفضله.
ويذكر المؤرخون أن جامعة لوفاك اعتمدت في دراستها على كتب الرازي وابن سينا، وأما جامعة مونبيليه فقد أجبرت طلابها على استعمال كتب ابن سينا والرازي ضمن الكتب المقررة التي يمتحن فيها الطالب للحصول على إجازة الطب.
ومما يذكره الأستاذ "دالماس" أستاذ الأمراض النسائية في جامعة مونبيليه:
(أن مدينة العرب لم تقتصر على فن البناء ونشر الزخرفة وتشييد الجوامع فقط، بل كانت تتناول الكثير من العلوم والمعارف التي هي أساس العلوم الحديثة، خاصة علم النبات وعلم الطب).
ومما ذكره أيضًا: (أن العرب سكنوا مونبيليه، وكان منهم الأطباء الذين يمارسون الطب في المدينة، وأن كثيرًا من أساتذة الطب في الجامعة، مثل: صوموئيل بن طيبون وناتان بن زكريا، تتلمذوا على أيدي العرب).
إضافة إلى ذلك، فإنه ذكر (أن بعض أساتذة الجامعة كانوا من العرب).
ونظرًا لأهمية العلوم الطبية في تدعيم الحضارة الإسلامية خاصة المستشفيات التي كانت بمنزلة كليات طب، وتأثيرها المباشر في تقدم الغرب وإرساء حضارته.
نرى من الضروري الإسهام في إظهار حقيقة هذه المعالم وتثبيتها؛ حفظًا للأمانة العلمية وصيانة للتاريخ.
أول مستشفى في الإسلام:
بالرغم من معرفة العرب قبل الإسلام للمستشفيات القائمة في الدول المجاورة لهم.
فإنها ما كانت معروفة في الجزيرة العربية، ولكن التطبب كان يتم على أيدي بعض الناس الذين كان لديهم إلمام في مبادئ العلوم الطبية.
فالحارث بن كلدة زوج خالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وابنه النضر بن الحارث قد رادا البلاد في طلب العلم والمعرفة.
فوصلا في أيام كسرى أنوشروان إلى جنديسابور (إحدى المدن الفارسية)، وتعلما الطب في بيمارستانها (مستشفاها).,
الذي كان يديره أطباء من النساطرة (إحدى الفرق النصرانية التي أسسها نسطوريوس).
وبعد ذلك رجعا إلى الحجاز وكانا يعالجان المرضى. والمعروف أن الحارث بن كلدة الذي ولد في الطائف استمر في عملية التطبيب في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبقي على ذلك حتى زمن معاوية بن أبي سفيان.
إن الاتجاه الفكري الذي جاء به الإسلام في اتباع القواعد الصحيحة لتكوين مجتمع مسلم صحيح وسليم في عقله، وقوي في بدنه.
ساعد على نشوء نوع جديد من الطب سمِّي بالطب النبوي.
لقد جمعت أكثر الأحاديث في أكثر من كتاب، حيث نتحدث عن عيادة المرضى، ودعاء العائد لهم، ورفقه بهم، وما يقال لهم.
كما أن بعضها ذكر بعض العلل كالصداع والشقيقة، والرمد، والجذام، واستطلاق البطن، وذات الجنب، والطاعون، ولسعة العقرب والأفعى...
بالرغم من وجود أطباء وآسيات (ممرضات) في العهد النبوي، وبالرغم من معرفة العرب بمستشفى جنديسابور الشهير، وبالرغم من حث الإسلام على الصحة والوقاية من الأمراض ومراجعة الأطباء عند المرض.
وجعل مهنة الطب فرض كفاية على المسلمين؛ حيث يجب أن يكون في الأمة من يقوم بهذه المهنة؛ حفظًا لصحة المجتمع.
وإذا ما فُقِد هذا العلم فإن الإثم يقع على المسلمين كافة، إذا ما قصروا في هذا الواجب- فإن الإمكانات العلمية والمادية ما كانت تساعد في العهد النبوي على إقامة المستشفيات المعروفة في ذلك الوقت.
ولكن كانت تُقام الخيم وقت المعارك الحربية لمعالجة الجرحى.
إن أول خيمة (مستشفى) ضربت لهذا الغرض في تاريخ الإسلام كانت خيمة الآسية العربية رفيدة الأسلمية، التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تضرب في المسجد؛ لتكون قريبة من الجيش؛ لأن رفيدة كانت لها معرفة بالجراحة والإسعافات الأولية.
ولذلك حينما أصيب سعد بن معاذ في المعركة، قال صلى الله عليه وسلم: "اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب".
استمرت المستشفيات الإسلامية على هذه الحال من البساطة في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين والعهود الأولى لبني أمية.
ومما يقوله صاعد الأندلسي عن علم الطب في صدر الإسلام: إن العرب في صدر الإسلام لم تعن بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب.
ونظرًا لاهتمام المسلمين بالطب في صدر الإسلام، بدءوا بترجمة الكتب الطبية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية.
إن أول من له الفضل في هذه الترجمة هو الأمير خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، الذي استخدم عددًا من فلاسفة الإغريق القاطنين في مصر.
وأغدق عليهم فترجموا له العديد من الكتب اليونانية والمصرية القديمة في الكيمياء والطب والفلك.
وقد تحدث عنه ابن خلكان وذكر بأنه كان من أعلم قريش بفنون العلم، وله كلام في صنعة الكيمياء والطب، وكان بصيرًا بهما، متقنًا لهما، وله رسائل دالة على معرفته وبراعته.
وعندما حرر المسلمون العراق وإيران من المجوسية، حافظوا على جنديسابور ومراكزها العلمية؛ ليتخرج فيها العلماء والأطباء.
وقد جاء بالفعل قسم من طلابها وأساتذتها إلى دمشق أثناء حكم الأمويين، ومعظم القادمين كانوا نصارى.
وبعضهم كان من اليهود؛ فماسرجويه الطبيب الفارسي اليهودي قدم إلى دمشق من جنديسابور في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز.
وقام بترجمة كناش (كتاب) أهرون (القس السرياني) في الطب، من اللغة السريانية إلى اللغة العربية.
والمعروف أن هذا الكتاب وجد في خزائن الكتب القديمة أثناء خلافة عمر بن عبد العزيز، فأمر بإخراجه وترجمته وبثّه بين الناس؛ لما يحتويه من فوائد طبية لكي ينتفعوا به.
أول مستشفى جذام في التاريخ:
إن أول مستشفى تم بناؤه في التاريخ الإسلامي كان زمن الخليفة الوليد بن عبد الملك، وكان هذا المستشفى متخصصًا في مرض الجذام والمجذومين، ويعتبر أول مستشفى متخصص في التاريخ.
إن مرض الجذام معروف للمسلمين بأنه من الأمراض المعدية، وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم منه ومن مخاطره على الناس، حيث قال: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" (رواه البخاري).
لقد وضع المجذومون في هذا المستشفى، وكانت المعالجة الطبية تُجرى لهم تحت إشراف الأطباء، كما تخصص لهم الأرزاق من قِبل المشرفين والقائمين عليها.
إن أهل الشام كانوا يعتبرون الوليد بن عبد الملك من أفضل خلفائهم؛ لأنه بَنَى مسجد دمشق، ومسجد المدينة، ووضع المنار، وأعطى المجذومين، وجعل لكل مُقعَد خادمًا، ولكل ضرير قائدًا.
وبهذه الطريقة العلمية، الأولى من نوعها في العالم، توقى المجتمع الإسلامي عدوى المجذومين.
وفي الوقت نفسه كفل علاجهم والعناية بهم وراحتهم منذ العهود الإسلامية الأولى، وإن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على المعاملة الإنسانية التي حث عليها الإسلام، والتي يجب أن يتمثل بها بنو البشر كافة.
مهما كانت حالتهم الصحية والاجتماعية.. أغنياء أو فقراء، كبارًا أو صغارًا، أصحاء أو مرضى، مسلمين أو غير مسلمين.
وفي الوقت نفسه تدل على أن المسلمين عرفوا منذ عهد طويل أن بعض الأمراض تنتقل بالعدوى قبل أن تعرف ذلك أوربا بقرون عديدة؛ ولذلك يسجل التاريخ كيف أن "فيليب الجميل" ملك فرنسا حرق المجذومين عام 1313م؛ لكي يخلص الناس من شرهم، باعتبار أن هذا الداء نتيجة للرجس أو الخطيئة، وأنه نوع من عقاب رباني.
المصادر:
1- ابن خلكان، أحمد: وفيات الأعيان، مصر 1372هـ.
2- الأندلسي، صاعد بن أحمد: طبقات الأمم، مطبعة السعادة، مصر.
3- البدري، عبد اللطيف: الطب عند العرب، الموسوعة الصغيرة رقم (8) منشورات وزارة الثقافة والفنون، بغداد 1978م.
4- الحاجم، غازي محمد: دور العرب في تقدم الطب، آفاق عربية، العدد (8)، بغداد 1980م.
5- الديوجي، سعيد: دور العلاج والرعاية في الإسلام، مطبعة الجمهورية، الموصل 1966م.
6- عيسى، محمد خيري: مبادئ العلوم السياسية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1962م.
7- لوبون، جوستاف: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة 1956م.
الكاتب: د. غازي الحاجم
المصدر: مجلة الأمة، شوال 1403هـ